مع دخولها اليوم الـ 261، تبدو الحرب المتوحشة على غزة بلا أفق، دون تحقيق أهدافها، وبلا صفقة، وسط تسريبات بأن حكومة الاحتلال تتّجه لإعلان الانتصار على “حماس”، والانتقال لمرحلة جديدة، ووسط سجالات داخلية متفاقمة حول مستقبل هذه الحرب التي تستنزف مقدرات وهيبة وصورة وشرعية واقتصاد إسرائيل، وتنذر بتحول الاشتباكات مع “حزب الله” لحرب شاملة.
هذه الحرب المتوحشة، في شهرها التاسع، تقتل المدنيين الفلسطينيين بمذابح جديدة، كما جرى أمس خلال محاولة اغتيال قيادي عسكري في “حماس”، لكن الصحافة العبرية، عدا صحيفة “هآرتس”، تحجب الحقيقة الدموية عن الإسرائيليين، ولا تتطرّق لقتل العشرات من النساء والأطفال، في قصف حاقد يائس يستهدف أحياء سكنية، وهي منشغلة، هي الأخرى، بالبحث عن اغتيالات “تكسر حالة التعادل”، وتعكس، في ذات الوقت، الانقسامات الحادة في الشارع الإسرائيلي.
ديسكين: تصيبني الصدمة كل يوم من قلّة حيلة الحكومة وفشل إدارة الحرب، ومن كذبة “النصر المطلق” والهرب المطلق من المسؤولية، وتفويت كل فرصة لاستعادة إخوتنا المخطوفين
وتجلّت الانقسامات في صفوف الإسرائيليين حول الحرب، سلّم أولوياتها، ومصيرها، في مظاهرات صاخبة، ليلة أمس، تعرّضَ بعضُ المشاركين فيها، بمن فيهم صحفيون، للضرب، تطالب باستعادة المخطوفين، ووقف الحرب، وإسقاط حكومة نتنياهو، وهي الأكبر منذ السابع من أكتوبر الماضي.
وفي مظاهرات تل أبيب أيضاً، برزت دعوات وقف الحرب والتخلّص من حكومة الاحتلال ورئيسها نتنياهو، وهو رئيس الوزراء الأكثر فشلاً في تاريخ حكومات إسرائيل، كما قال رئيس “الشاباك” الأسبق يوفال ديسكين، في كلمته أمام عشرات آلاف المتظاهرين المطالبين باستعادة المحتجزين، والذهاب لانتخابات عامة مبكّرة.
وأضاف ديسكين: “تصيبني الصدمة كل يوم من قلّة حيلة الحكومة وفشل إدارة الحرب، ومن كذبة “النصر المطلق” والهرب المطلق من المسؤولية، وتفويت كل فرصة لاستعادة إخوتنا المخطوفين الذين يموتون بيد “حماس”. هناك طريق للخروج من الحالة التي تجد إسرائيل نفسها فيها اليوم، فهي بحاجة لقيادة إنسانية تحت شعبها، غير مشغولة بحب ذاتها. ملزمون بالمطالبة بانتخابات عامة الآن، مع الاهتمام بأن تنتهي بتشكيل حكومة وحدة وطنية، بدون القائد الأكثر فشلاً في تاريخ إسرائيل، ودون متطرفين غيبيين”.
لننهض من الرماد الآن أو لا نقوم للأبد
وتبعه الأديب الإسرائيلي دافيد غروسمان، الذي ثكل ابنه الجندي في حرب لبنان الثانية عام 2006، فقال، في كلمته أمس، إذا لم يخرج الإسرائيليون بجموعهم للاحتجاج، وإسقاط حكومتهم المنفصمة عن الواقع، ستضيع إسرائيل وتنهار، ولن يحصلوا مستقبلاً على “هدية جديدة على شاكلة إسرائيل”. هذا هو وقت الخروج للشوارع، رجالاً ونساء”. لافتاً لوجود “أهداف سامية من أجلها يجدر النضال”.
وتابع غروسمان: “بحال لم ننهض من الرماد الآن، لن نقوم أبداً، أو نقوم مختلفين. هذه هي اللحظة الأخيرة، وهذا هو الوقت للقتال وللخروج للتظاهر”.
وأعلن قادة المظاهرة عن يوم احتجاج وإضراب عامّ يوم الخميس القريب.
إيهود براك: إسرائيل عالقة في مأزق إستراتيجي
وجدّد رئيس الحكومة ووزير الأمن الأسبق إيهود براك حملتَه على نتنياهو، واتهمه بتوريط إسرائيل في مأزق وشلل إستراتيجي ضمن حساباته الفئوية، مشدداً على أن الخروج منه يبدأ فقط بإسقاطه.
في حديث للإذاعة العبرية العامة صباح اليوم الأحد، قال براك إن على إسرائيل استعادة المخطوفين، وتهدئة الأوضاع في الجنوب وفي الشمال، ولو مؤقتاً، وتمكين النازحين الإسرائيليين من العودة لبيوتهم، وذلك حتى بثمن وقف الحرب. وعلّل دعوته لوقف الحرب بالقول: “ينبغي تزويد الجيش الإسرائيلي بفرصة للانتعاش، والتزّود بالذخائر، ووقف التدهور الدبلوماسي، وتحاشي إدانة إسرائيل في لاهاي، وترتيب الأوراق مع واشنطن، بعد هذا التصرّف الصبياني لنتنياهو مع الإدارة الأمريكية. بعد عام ونصف العام سنكون جاهزين للقيام بما لا يمكن القيام به الآن”.
ورداً على سؤال حول استمرار مساندة أمريكا لإسرائيل، رغم انتقادات نتنياهو الشديدة لبايدن، قال براك إن دفع أمريكا لحاملة طائرات نحو البحر المتوسط، والتأكيد مجدداً بأنها ستزوّدنا بكلّ السلاح، بحال نشبت حرب مع “حزب الله”، يدلّل على صبيانية نتنياهو، المشغول الآن بشؤون صغيرة وفئوية”.
وكرّر براك تأكيده على أن نتنياهو عاجز عن إدارة الأزمة الكبيرة التي تواجهها إسرائيل اليوم، وأنه من المحظور منح نتنياهو فرصة لمواصلة قيادة السفينة الإسرائيلية.
ورداً على سؤال آخر حول استفادة “حماس” من مظاهرات تل أبيب، نفى براك ذلك، وتابع: “المظاهرات لا تقوّي السنوار، بل نتنياهو هو الذي يعزّز قوته، فهو المسؤول الوحيد عمّا يجري، وينبغي التخلص منه فوراً قبل دفعنا للهاوية والكارثة”.
على خلفية كل ذلك، يدعو براك للتصعيد الفوري، وقبل فوات الأوان: “لذا لا مفرّ من شلّ الدولة بإضراب كل القطاعات، وصعود مئات آلاف المتظاهرين للكنيست، ومحاصرته دون توقّف حتى تسقط هذه الحكومة، ومهمة قادة المعارضة ترتيب كل ذلك، وهذا هو الوقت الآن، وإرجاء العملية أمر خطير، والحل وقف الحرب الآن والذهاب لانتخابات مبكّرة”.
متورطون في حرب استنزاف
وهذا ما يشدّد عليه الباحث في الشؤون الفلسطينية والصراع ميخائيل ميليشتاين، محذّراً من أن عدّ قتلى العدو يعكس فهماً مغلوطاً له، كما حَلَّ مع الأمريكيين في فيتنام، حيث أحرزوا نجاحات تكتيكية دون ترجمتها لمكسب إستراتيجي.
ميليشتاين، وهو جنرال في الاحتياط، شغل منصب مدير وحدة الدراسات في الاستخبارات العسكرية، يوضح، في مقال تنشره “يديعوت أحرونوت” اليوم، أن اتّهام من يدعو لوقف الحرب الآن بالانهزامية يتنكّر لقلّة حيلة السياسات الحالية التي لا تقرّبنا من تحقيق الأهداف، وتنتج مرارة لدى الإسرائيليين.
ويتطابق ميليشتاين مع براك بالخلاصة الختامية: “إنهاء الحرب يتيح لإسرائيل عملية استشفاء داخلية متعددة الأبعاد، مقابل صياغة خطط عميقة لإلحاق هزيمة بـ “حماس”، وإعادة صياغة القطاع من جديد”.
براك: لا مفرّ من شلّ الدولة بإضراب كل القطاعات، وصعود مئات آلاف المتظاهرين للكنيست، ومحاصرته دون توقّف حتى تسقط هذه الحكومة
حان الوقت لنستيقظ
وتبعهما محلل الشؤون السياسية في الصحيفة شيمعون شيفر، الذي يؤكد أن المخرج من الأزمة، وتحقيق التغيير المشتهى، يكمن بتحوّل الأصوات المعارضة في إسرائيل لصرخة كبرى مدوّية، وهذا ما تؤكده مجدداً افتتاحية “هآرتس”، اليوم، مكررة موقفها بأن الخلاص يبدأ بإسقاط نتنياهو عبر انتخابات عامة.
ومقابل الأوساط الرسمية وغير الرسمية الرافضة لوقف الحرب على غزة، وتستمد قوتها من انقسام الإسرائيليين حولها، وطمع نصفهم بانتصار على “حماس” مهما حصل، يدعو وزير القضاء الأسبق بروفيسور دانئيل فريدمان، في مقال تنشره “معاريف”، اليوم، للخروج الفوري من قطاع غزة، خاصة في حال كان لا مناص من الحرب مع “حزب الله”.
ضمن تبريره لدعوته، يشير فريدمان إلى أن التدهور العسكري والدبلوماسي، بالتزامن مع ارتفاع احتمالات حرب مع “حزب الله”، كل ذلك يلزم إسرائيل بإنهاء المعركة، والعضّ على النواجذ، وتعيين حكم جديد في القطاع بالتعاون مع السلطة الفلسطينية.
ويمضي في توصيف الحالة التي يستمد منه موقفه: “الحرب تجري بشكل سيء، وتطول، ونهايتها لا ترى في الأفق، وربما هذا يتناسب مع مصلحة نتنياهو، بيد أن مصلحة إسرائيل معاكسة، وتقتضي وقفاً للحرب في أقرب فرصة ممكنة. هذه فرصة لتغيير صورتنا الإستراتيجية، وقف تدهور حالتنا الدولية بشكل خطير، ويمكن تأمل ترتيب الأوراق مع لبنان وتحاشي حرب كبرى. في كل الأحوال إن كان لا بدّ من حرب في الشمال، فمن الأجدر القيام بها بعد إنهاء الحرب على جبهة غزة”.
المصدر القدس العربي