يستعرض تقرير جديد للمركز الفلسطيني للشؤون الإسرائيلية (مدار) الأضرار اللاحقة بالجامعات الإسرائيلية نتيجة الحرب المتوحشة على غزة، ويلاحظ أن مقاطعتها في العالم تتصاعد.
ويستذكر “مدار” أن المحاضِرة في جامعة تل أبيب عنات مطر كتبت رثاءً للأسير الشهيد وليد دقّة على صفحتها في فيسبوك. وسرعان ما حُرّضت الجامعة كي تفصل المحاضِرة، ووصل التحريض من طلاب الجامعة وجامعات أخرى وأساتذة جامعيين إلى درجة طلب “فحص الشرطة التحقيق معها. هذا بالإضافة لمكتوب رسميّ من وزير التربية يوآف كيش، مفاده “توقّع” الوزير أن يستخدم رئيس جامعة تل أبيب جميع سلطاته وأشدّها فعاليّةً، وبأسرع وقت، ضد المحاضِرة.
ويستذكر أن رئاسة جامعة تل أبيب لم تقم بأي إجراء فعّال ضد البروفسور مطر، واكتفت باستنكار المنشور.
وأكثر من ذلك؛ أرسل رئيس الجامعة مكتوباً إلى الوزير آنف الذكر، وأرسله أيضاً إلى طلاب جامعة تل أبيب، تحت عنوان “أوقف التحريض على جامعة تل أبيب”.
باحثون إسرائيليون يجمعون على أن ما تتعرّض له إسرائيل من مقاطعة أكاديميّة غير مسبوق، في انتشاره الأفقي وشدّة الموقف وعمقه
ومفاد المكتوب أن حريّة التعبير عن الرأي في إسرائيل تسمح للمواطنين بالإدلاء بآرائهم حتى لو كانت متعارضة مع رأي الوزير، بالإضافة للتأكيد على أن الأكاديميا الإسرائيلية تعيش في أسوأ أيّامها على المستوى الدولي، وأن المؤسسات الإسرائيلية تصطدم بالمقاطعة على ضوء الحرب في أماكن كثيرة في العالم، وبالتالي يجب الانشغال في مواجهة هذه المسألة، وليس التحريض على المؤسسات الأكاديميّة “من داخل البيت”، أو الدفع بممارسات تضرّها.
حقائق جديدة على ضوء الحرب
طبقاً لتقرير “مدار”، بدأ التدهور في العلاقات بين المؤسسات الأكاديميّة في إسرائيل وأوروبا والولايات المتّحدة، مع بدء تطبيق “خطّة الإصلاح القضائي” التي أعلن عنها وزير القضاء في حكومة الاحتلال ياريف ليفين، بعد أسبوع من تشكيل الحكومة. في حينه، برّرت المؤسسات الأكاديميّة في أوروبا والولايات المتحدة إلغاء دعوات جارية، أو التوقّف عن دعوة محاضري جامعة، وممثّلين عن الجامعات الإسرائيلية إلى مؤتمرات علميّة، أو البرامج المشتركة عموماً بين المؤسسات، بينها تجارب مختبريّة، بانخفاض درجة إسرائيل بين الدول الديمقراطيّة، إذ انخفضت درجة إسرائيل بين الدول الديمقراطيّة بست درجات في العام 2022؛ ولم يكن “الإصلاح” القضائي العامل الوحيد في هذا، بل الرئيس، إذ أثّرت “حريّة الصحافة” و”الضرر بحريّة التعبير عن الرأي”، و”تمثيل الأقليات في البرلمان”، قبل الإعلان عن خطّة “الإصلاح” القضائي، على تقييم اسرائيل في جدول الدول الديمقراطية العالمي.
ويقول تقرير “مدار” إن الأثر الناتج على ضوء هذه الحقائق يبقى محدوداً، قياساً بما تتعرّض له إسرائيل على ضوء الحرب مع الفلسطينيين 2023-2024، حيث رافق الارتفاع الكمّي داخل العوامل المؤثّرة أعلاه إلى درجات غير مسبوقة، نشوء عوامل جديدة مؤثّرة على نحو حاسم في المكانة العالميّة للمؤسسات الأكاديمية الإسرائيلية. وتقول، على سبيل المثال، في قياس حريّة الصحافة، شددت الرقابة العسكريّة (وهي مؤسسة لا نظير لها في سائر الدول الديمقراطيّة في العالم) القيود على التقارير والمواد الصحافيّة: نحو 6715 مادّة حُظرت أو عدّلت، من أصل 312 ألف مادة صحافية خضعت للرقابة العسكريّة، في شهري تشرين الأول وكانون الأول من العام الماضي. كما نُفّذ قرار الحكومة، في 5 أيار هذا العام، بإغلاق مكاتب «قناة الجزيرة»، بينما تضرّرت حرية التعبير عن الرأي على نحو جذري في إثر سلسلة تعديلات قانونيّة، أو قوانين سنّت على ضوء الحرب. وتشكّل مرافقة هذه الحقائق القضايا المشهورة لإسرائيل في المحاكم الدوليّة (العدل والجنائيّة)، ومظاهرات الطلاب في الجامعات الغربيّة، التي تطالب بوقف تمويل المؤسسات الإسرائيلية وقطع العلاقات معها، عوامل جديدة تدفع باتجاه مزيد من القيود على المؤسسات والشخصيات الأكاديمية في إسرائيل، تتعلّق بسحب التمويل وإلغاء مختلف أنواع تبادل الخبرات العلمية، وصولاً إلى قطع العلاقات المؤسساتيّة.
في المقابل، يوضح “مدار” أن ثمّة فارقاً آخر يمكن تمييزه، يتعلّق برد فعل النخب الإسرائيلية على هذه القيود؛ في الحالة الأولى، ألقت النخب المتضررة اللوم على مسعى نخب سياسيّة إسرائيلية لتغيير المنظومة القضائيّة، بينما في الحالة الأخيرة، صاغت النخب الإسرائيلية، بمجملها دون تمييز بين معسكر سياسي أو مجال تخصص، خطاباً تفسيرياً واحداً، تستخدم بواسطته مصطلح “معاداة الساميّة/ إسرائيل/ الصهيونيّة/ اليهوديّة”؛ وفي أفضل الأحوال، ادّعت المؤسسات الإسرائيلية أن هذه القيود، أداة المقاطعة العالميّة في سياق المؤسسات الأكاديميّة، تقوّض القيم الديمقراطية والليبرالية، وسيادة القانون، والموقف من ‘الحل العادل للصراع’ في إسرائيل، وبالتالي طلبت، على سبيل المثال، لجنة الجامعات في إسرائيل من نظيرتها في إسبانيا التريّث، وإعادة التفكير بنيّتها قطع العلاقات بين المؤسسات الأكاديمية، دون أن تبدي اكتراثاً جدّياً بمحتوى الادعاءات المقدّمة ضدّها. وحسب التقرير، تخاف النخب هذه من استنساخ هذا الموقف إلى دولٍ أوروبيّة أخرى. وفي ندوة عبر تطبيق زوم، بادر إليها “المجمع الوطني الإسرائيلي للعلوم والآداب”، ومؤسسات أخرى، يمكن تمييز إجماع تام بين النخب العلميّة على أن ما تتعرّض له إسرائيل في هذا السياق يمكن اختصاره ضمن “معاداة السامية/ إسرائيل/ الصهيونيّة/ اليهوديّة”، دون تدقيق في محتوى “المعاداة”. بهذا الأسلوب، تحوّلت النخب الإسرائيليّة من استخدام وصف “قيود” في الحالة الأولى، إلى مصطلح “المقاطعة” في الحالة الراهنة.
الطلاب الجنود
وعلى المستوى الضيّق، أثّرت الحرب على نحو مباشر في الأكاديميا الإسرائيلية، إثر استدعاء 55 ألف طالب جامعي لجيش الاحتياط على ضوء الحرب، 18% من مجمل الطلاب، مقابل نحو 3000 عضو طاقم تعليمي وإداري في الجامعات الإسرائيلية، وتقليص الفصل التعليمي الجامعي إلى 11 أسبوعاً بدلاً من 13، بالإضافة لتأجيل العام الدراسي الجامعي لنحو شهرين ونصف الشهر.
إغلاق الباب وسحب التمويل
وأجرى مركز “الأكاديميا الشابّة في إسرائيل”، مطلع هذا العام، استطلاعاً، استجوب فيه 1015 أستاذاً جامعياً إسرائيلياً- يهودياً، من مختلف الجامعات الإسرائيلية، ومن مختلف الكليّات ومجالات التخصص العلميّة.
يشير الاستطلاع إلى أن 32% من المستطلعين قد ألغيت دعوات جارية لهم خارج البلاد، وأن “علاقاتهم الدوليّة قد تأثّرت” على نحو بالغ (عالية، أو عالية جداً، بحسب الاستطلاع)، بالإضافة لنضوب القدرة على اجتذاب طلاب دوليين، حيث أفاد 41% من المستطلعين بتضرر توظيف هذه النوعيّة من الطلاب لديهم، بينما بلغت نسبة الباحثين الذين يعتقدون أن أوراقهم البحثيّة ترفض في مؤتمرات علمية دوليّة على ضوء الحرب، نحو 26%. وظهرت النسبة الأعلى في الاستطلاع في الاتجاه المعاكِس: عدم حضور الباحثين من خارج إسرائيل إلى داخل هذه المؤسسات، كما أبلغ 64% من الباحثين عن زملائهم الدوليين. ويبقى المعطى الأكثر تأثيراً هو إبلاغ 15% من المستطلعين بالضرر اللاحق في قدرات مؤسساتهم على الحصول على تمويل ماليّ من خارج إسرائيل.
ومن دون الإشارة إلى الباحثين الذين “حافظوا على استقرار نسبي، بينما زملاؤهم قد تضرروا”، ما يفيد بارتفاع هذه النسب أثناء إجراء الاستطلاع، حيث يصعب الاستفادة على نحو دقيق من هذا الجانب، يمكننا القول إن القلق الرئيس الذي يعتري المشرفين على الاستطلاع، كامن في الاحتمالات العالية مستقبلاً بتطوّر النِسب أعلاه على نحو متطرّف، ما ينذر بوضعيّة غير مسبوقة قد تسقط إليها الأكاديميا الإسرائيلية في الساحة الدوليّة.
إلغاء مؤتمرات علمية
في ذات السياق، أجرت صحيفة “هآرتس” مقابلات مع 60 باحثاً إسرائيلياً، يجمعون على اختلاف التجارب التي مرّوا بها: إلغاء دعوة لمؤتمر علمي، إلغاء عضويّة في مؤسسة غربية، إبطال تبادل الخبرات العلميّة، شطب مقالات علميّة منشورة، أو رفض النشر أصلاً، رفض الإشراف على دراسات عليا لطلاب إسرائيليين، التظاهر ضد الباحث حال حضوره، وغيرها الكثير.. يجمعون على أن ما تتعرّض له إسرائيل من مقاطعة أكاديميّة غير مسبوق، في انتشاره الأفقي وشدّة الموقف وعمقه، بينما الأكثر إثارة للقلق لديهم أن “إسرائيل ما زالت في بداية الطريق، والأسوأ كامن في المستقبل”.
أعلنت جامعات ومؤسسات أكاديمية في بلجيكا وإسبانيا وإيطاليا والنرويج في الأشهر الأخيرة عن مقاطعة كاملة أو تعليق العلاقات مع المؤسسات الإسرائيلية
تطور المقاطعة
لكن أكثر ما يدفع إلى الانتباه في التقرير ظهور تطوّر جديد في مسار المقاطعة، مع تبنّي مؤسسات لهذا الخيار وليس، كما أغلب الحالات أعلاه، اقتصاره على أفراد، حيث “فعلاً، أعلنت جامعات ومؤسسات أكاديمية في بلجيكا وإسبانيا وإيطاليا والنرويج في الأشهر الأخيرة عن مقاطعة كاملة أو تعليق العلاقات مع المؤسسات الإسرائيلية”، كما يقول رئيس جامعة تل أبيب.
بحسب الصحيفة (هآرتس)، في معرض الرفض والمقاطعة والحظر، يقول الباحثون في المؤسسات الغربيّة إنهم لا يستطيعون التعاون مع دولة ترتكب إبادة جماعيّة، وتمارس جرائم حرب؛ وأنّ ثمّة آلافاً من الباحثين وأساتذة جامعيين قد وقّعوا على وثيقة تعهّد بـ “لا تعاون أكاديمي” مع المؤسسات الإسرائيلية، وأكثر من ذلك؛ لا يريد الباحثون الاشتراك في بحث يرتبط بباحث إسرائيلي بأي سياق. بينما تقول المؤسسات، التي تحاول الوقوف في مساحة رماديّة، إنها لا تستطيع تجاهل رفض الطلاب في الحرم الجامعي حضور باحث إسرائيلي في حرم الجامعة، وبالتالي فإن إبطال الزيارة هو الخيار الأمثل.
في هذا السياق، يدّعي المختص في القانون الدولي عميحاي كوهن أن الضرر اللاحق بسمعة إسرائيل الدوليّة، إثر تعيين قادة إسرائيل كمجرمي حرب بحسب “المحكمة الجنائيّة الدولية”، حتماً سيلقي بظلاله على “المجال الأكاديمي”، لينضم إلى موجة قلق تعتري أهل الاختصاص في إسرائيل على مستقبل الدولة في هذا المجال. يقول كوهن، بعد تعداد المجالات المختلفة (منها صادرات السلاح) التي تتعرّض للضرر، إن جامعات في هولندا وبلجيكا بدأت بخطوات قطع العلاقات مع المؤسسات الأكاديميّة، عبر التقليل من دعوة الباحثين الإسرائيليين على نحو لافت إلى المؤتمرات العلميّة.
المصدر القدس العربي