سياسةوطني

على مفترق الطرق كيف ستحدد المرحلة الأنية مسار العلاقات الجزائرية الفرنسية

تدخل العلاقات الجزائرية الفرنسية مرحلة جديدة لم تشهدها من قبل مع مختلف السياسات المنتهجة منذ الإستقلال، وتاتي هذه المرحلة نتيجة العديد من المعطيات الجيوسياسية الداخلية بالنسبة للبلدين وكذا الإقليمية وبشكل أقل حدة المعطيات الدولية، فظهرت العديد من الممارسات التي شكلت في حد ذاتها نقلة نوعية بالمرحلة الأنية من مسار العلاقات بين الدولتين.
التحول الجذري في الفكر المبني عليه مسار العلاقات بين الجزائر وفرنسا أتضح في العديد من الممارسات من قبل الجانبين سواء بدوائر صناعة القرار او عبر مختلف  الوكلاء والمنابر سواء مؤسساتية او إعلامية وحتى مجتمعية لنشطاء المجتمع المدني وغيره من التنسيقيات التي لها إرتباط وثيق بالعديد من القضايا التي تتداخل في العلاقات الثنائية، وأخرى تمارس فعليا وتؤثر مباشرة على هذا المسار والتي يشكل الملف الإقتصادي عنوانها البارز خاصة في شق التبادلات التجارية والمؤسسات الفرنسية العاملة بالجزائر، فكانت القرارات الإقتصادية التي تمس مباشرة بميزان التبادلات التجارية أين نجد إنخفاض في الصادرات الفرنسية إلى الجزائر لتبلغ 3٫7 مليار يورو في سنة 2024 وإنخفاض واردات الجزائر من القمح الفرنسي إلى نسبة 80% والتي أصبحت 160 مليون يورو بعد ان كانت 834 مليون يورو سنة 2022 حسب الإحصائيات الأخيرة، ولم تتوقف عند التأثير الكبير على الميزان التجاري بل تعدت ذالك إلى التأثير على عمل المؤسسات الفرنسية العاملة بالجزائر على غرار مصنع التركيب لرينو الفرنسية وكذا إستبعاد الشركات الفرنسية من مناقصات إستراد القمح وغيره، ويبقى ملف المحروقات مسيطر على المشهد بإعتباره اكبر الرهانات الحالية.
وبالتالي تنعكس الأزمة على مصالح فرنسا في الجزائر بشكل متزابد حيث تراجعت التبادلات التجارية بنسبة 30% في العديد من القطاعات الهامة.
التأثير المباشر على مسار العلاقات الثنائية بين الجزائر وفرنسا يكتسي طابع خاص وليس مرتبط فقط بالعلاقات التجارية والتي هي ورقة ضغط تتحكم بها الجهتين لفرض العديد من التوجهات الخاصة العديد منها مرتبط بالشؤون الإقلمية واخرى داخلية، فإنتهاج الجزائر سبيل العمل على إنتعاش الإقتصاد الوطني بعد 2021 ضمن المسار الذي وضعه السيد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون والخطة الإقتصادية التي سوف تعطي ثمار ملموسة في المدى القريب والمتوسط أثارت زوبعة من الإنتقاد الخارجي وأذرعه بالداخل لانها سوف تكون سد قوي أمام مصالح فرنسية كانت بالأمس القريب من المسلمات التي رسمت زمن النظام السابق ولمصلحة فئات معينة تستفيد من إمتيازات خاصة وراء هذه المسلمات، أين كانت قرارات الرئيس تبون حاسمة ضمن برنامج يضع الجزائر الجديدة في السكة الصحية لتسلك مسار خاص يخدم المصالح الوطنية بغض النظر عن الشريك الأجنبي وبالتالي نجد مصالح إقتصادية متأثرة بهذا المسار للعديد من الشركاء الكلاسيكيين، خاصة وأن الجزائر وفي ظل غلق باب الإستيراد والإتكال على إقتصاد الريع في نفس الوقت توجهت لإبرام شراكة حقيقية مع العديد من الدول على غرار الصين والهند وإيطاليا وقطر الى جانب الشراكات القديمة مع روسيا وألمانيا سواء في الجانب التجاري أو الجانب العسكري وإنتهاج سياسة نقل تكنلوجيا التصنيع في خطوة جد مهمة لكسر طابوهات قديمة لن تتجدد.
فابتالي العديد من العوامل والإجراءات التي تسعى من خلالها الجزائر لتطوير من إقتصادها والبرامج الإستراتيجية الكبرى على غرار محطات تحلية مياه البحر وخطوط السكة الحديدية وتطوير الموانئ وتنويع مصادر التسليح، جعلت فرنسا خارج دائرة التأثير الإقليمي والداخلي على الجزائر وأحست بفقدان السيطرة على العديد من الروابط الجد مهمة والمؤثرة في الإستراتيجية الفرنسية المبنية على الإستغلال والإملاءات.

لم يجد السياسي الصغير ماكرون سوى اللعب على الظروف الإقليمية المحيطة بالجزائر فهرولة مسرعا للإعتراف بالسيادة المغربية على الصحراء الغربية في خطوة يراد منها إستفزاز الجزائر التي تدعم حق تقرير المصير للصحرويين، ولتغطية العجز السياسي خاصة الداخلي لليسار أمام اليمين وتصاعد شعبية اليمين عند الفرنسيين إستغل اليمين المتطرف الذي فرض عليه ضمن الحكومة الجديدة إستغله في لكسب التأييد الشعبي ضد كل ماهو جزائري، فكانت لوزير الداخلية روتاريو تولي مهمة وضع ورقة طريق تصعيدية خاصة ضد الجزائر والهدف المحدد المتفق عليه بعلم ماكرون واليسار ومباركتم فكان عنوانه إستفزاز الجزائر من خلال العديد من التصريحات والممارسات على غرار التهديد بمراجعة إتفاقية 1968 التي تمنح إمتيازات خاصة للمهاجرين الجزائريين وإطلاق العديد من التصريحات ضد الجزائر حتى من قبل ماكرون نفسه ومحاولة التدخل في الشؤون الداخلية والمساومة بالملفات التاريخية على غرار ملف الذاكرة والأرشيف والإعتراف بجرائم الإستعمار قضية المحكوم عليه صنصال.

في مقابل هذا كان الرد الجزائري عبر الوكلاء وكذا القنوات الغير الرسمية التي إنخرطت في حملة ضد اليمين المتطرف وضربت بكل قواها عبر مختلف العناوين والمضامين ودائما كانت تمارس سياسة خاصة في هذا الإنخراط وهي فصل تصرفات اليمين المتطرف عن السلطة الفرنسية عكس السلطات الجزائرية التي تمارس الأسلوب الاوضح في التعامل وتستخدم الشرعية المستدمة من القوانين والإتفاقيات خاصة فيما تعلق بملف المهجرين والموقوفين وكذا القضايا الإقليمية أين تجد السلطات الجزائرية نفسها في أريحية نسبية على غرار السلطات الفرنسية خاصة وأن الجزائر إستغلت العديد من القضايا الإقلمية والدولية لصالحها خاصة في تنوع مصادر التسليح وربط علاقات إقتصادية وتجارية جديدة.
لكن في نفس السياق تبقى السياسة الخارجية الفرنسية إتجاه الجزائر مسمومة حيث تقوم بإرسال رسائل واضحة بخصوص العديد من القضايا بما فيها القضية التي توثير جدل كبير والمتعلقة بالكاتب بوعلام صنصال المحكوم عليه في الجزائر والتي يصر وزير الخارجية الفرنسي على إعتباره إحتجاز غير مبرر في تصريحه الأخير هذه التصريحات المراد من خلالها خلق نقاشات داخلية قد تضعف الموقف الوطني الجزائري الموحد إتجاه القضايا السيادية وتخلق تداخل في التصريحات، ورغم الضربة التي تلقاها اليمين المتطرف والمناورات السياسية التي أدت مؤخرا إلى محاكمة لوبان، يبقى الداخل الجزائري لم يحسم الأمر في العديد من الملفات سواء كان هذا الداخل عبارة عن أشخاص تمثل نفسها ومصالحها او لوبيات متمركزة بقوة في دواليب العمل السياسي والمؤسساتي، وتظهر جليا في ممارسات بائدة تبعث برسائل مشفرة لتعلن عن وجودها، وبالتالي الساحة الجيوسياسية تنتظر كذالك من سيسقط في الضفة الأخرى من الصراع.

ولفض هذا الإشكال كان الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون واضح في حديثه ضمن  لقائه الإعلامي الدوري مع الصحافة الوطنية أين صرح أن لاحديث له ولا نقاش مع فرنسا إلا عبر القنوات الرسمية والتي يمثلها الرئيس إيمانويل ماكرون، هذا التصريح الذي فتح الباب أمام الرئيس الفرنسي لإجراء إتصال هاتفي مستغل مناسبة عيد الفطر ومطالبا بفتح باي  الحوار عاجلا حول العديد من القضايا لأجل عودة العلاقات لطبيعتها، مدركا تماما أن مسار العلاقات الجزائرية الفرنسية بعد عن خرجت من منعرج خطير أصبحت في مفترق طريق أحداثه الأنية ستحدد مسار العلاقات المستقبلية بين البلدين.

الجانب الفرنسي تيقن تماما أن الخطاب الجديد يجب ان يحمل في طياته أسلوب مغاير للخطاب القديم، وان لغة التهديد والأمر قد إنتهت بلا رجعة مع نظام يدرك جيدا أساس اللعبة السياسية وحضوضه الجيوإستراتيجية كبيرة وأن القطيعة مع الممارسات القديمة قد إنتهت وأن التعامل يكون النذ للنذ غير ذالك فإن الطريق مسدود بإحكام رغم كل المناورات، تبقى فرنسا الجمهورية تناور وتلتف بملف جوهري وهو ملف الذاكرة والذي تدرك جيدا أنه ورقة جد مهمة خاصة قضية إسترجاع الأرشيف وعدم إمتلاك الجزائر لأرشيفها يجعلها رهينة للرواية الفرنسية للتاريخ، الملف الذي تعتبره الجزائر سيادي لا رجعة فيه والذي خصصت من أجل العمل عليه لجنة خاصة برلمانية من أجل تجريم الإستعمار و إثبات الجرائم الإستعمارية والعمل على بناء جبهة ديبلوماسية قوية لمتابعة ملف الذاكرة، كما ستشهد ورقة بوعلام صنصال العديد من المحاولات لفرض أمر واقع أو إنتهاج أسلوب لين ديبلوماسي في إطار تدابير تخدم مصلحة الطرفين كل حسب زاوية رؤيته لهذه الورقة، نحن اليوم نشهد مع السلطات الفرنسية تعديل مسار العلاقات وفق مصالح إستراتيجية إقليمية ودولية بعيد عن شعارات القطيعة التي لن تخدم الداخل للبلدين.

فيصل كباسي

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى