دوليسياسة

المحكمة الدستورية في تونس: إصلاح مؤجل أم أداة سياسية؟

بعد أكثر من عقد من الجدل السياسي والدستوري، عادت مسألة إرساء المحكمة الدستورية في تونس إلى واجهة النقاش السياسي، وسط انقسام حاد بين من يراها استحقاقاً دستورياً ضرورياً لاستكمال البناء الديمقراطي، ومن يعتبرها ورقة سياسية بيد السلطة تُوظَّف حسب الحاجة.

في 15 يوليو 2025، تقدم 21 نائباً تونسياً، أغلبهم من كتلة “الأحرار”، بمقترح مشروع قانون لإنشاء المحكمة الدستورية، مستندين إلى الفصل الخامس من دستور 2022، الذي خصص ثماني مواد لدورها واختصاصاتها. يأتي هذا المقترح بعد فشل مبادرة مماثلة في أبريل، تم إسقاطها قبل عرضها على لجنة التشريع، إثر انسحاب بعض النواب من التوقيع عليها، وسط اتهامات للسلطة بممارسة ضغوط سياسية لعرقلة المسار.

تعثر تاريخي

يعود الحديث عن المحكمة الدستورية إلى دستور 2014، الذي أقر بضرورة تأسيسها كهيئة رقابية مستقلة. لكن التوازنات السياسية حينها، وخصوصاً التجاذب بين الإسلاميين والعلمانيين، عطّل تشكيلها. وعلى الرغم من صدور القانون الأساسي المنظم لها عام 2015، فإن الحكومات المتعاقبة فشلت في تفعيلها، ما فتح الباب لتأويلات كثيرة حول خشية السلطة من مؤسسة تقيّد قراراتها أو تحاسبها.

ومع الانتقال إلى نظام رئاسي مهيمن بعد إجراءات 25 يوليو 2021، التي اتخذها الرئيس قيس سعيد، تزايدت المخاوف من غياب آلية دستورية تراقب قرارات السلطة التنفيذية، خاصة بعد أن أصبح الرئيس يحتكر السلطة التشريعية والتنفيذية معاً.

تفاصيل مشروع القانون

مشروع القانون الجديد، الذي حصلت “الشرق” على نسخة منه، يتألف من أربعة أبواب، تشمل الأحكام العامة، تركيبة المحكمة وشروط اختيار أعضائها، إجراءات انتخاب الرئيس وآليات سدّ الشغور، إضافة إلى دور المحكمة في مراقبة الأنظمة الداخلية للمؤسسات الدستورية.

ينص المشروع على أن المحكمة تتكون من 9 أعضاء:

  • 3 من أقدم رؤساء الدوائر بمحكمة التعقيب

  • 3 من أقدم رؤساء الدوائر بالمحكمة الإدارية

  • 3 من أقدم رؤساء الدوائر بمحكمة المحاسبات

يُنتخب رئيس المحكمة من بين أعضائها وفق شروط يحددها القانون، وتُمنح المحكمة صلاحيات رقابية على دستورية القوانين والمعاهدات، وعلى إجراءات تنقيح الدستور، إضافة إلى دورها المحوري في حال شغور منصب رئيس الجمهورية.

خلافات جوهرية

يرى المؤيدون أن غياب المحكمة الدستورية منذ ثلاث سنوات على إقرار دستور 2022 يمثّل خللاً دستورياً فادحاً. في المقابل، يعتبر معارضو السلطة، وعلى رأسهم حزب العمال، أن المحكمة في ظل المنظومة الحالية لن تكون سوى واجهة شكلية، إذ “لا يمكن أن تؤدي دورها الحقيقي في ظل رئيس يسيطر على كل السلطات”، حسب تعبير الجيلاني الهمامي، المتحدث باسم الحزب.

بدوره، يشير الخبير الدستوري رابح الخرايفي إلى أن وجود المحكمة يمثل “ضرورة ملحة” في ظل ما يصفه بـ”الفراغ الدستوري المخيف”، خصوصاً في حالة شغور منصب الرئاسة، حيث ينص الدستور على أن يتولى رئيس المحكمة إدارة البلاد بشكل مؤقت لمدة أقصاها 90 يوماً.

لكن الخرايفي يحذر من التسرّع، مؤكداً أهمية مناقشة المشروع “بعقل بارد وواقعي” لتفادي تحويل المحكمة إلى أداة سياسية. أما أستاذ القانون عبد المجيد العبدلي، فيسترجع أسباب فشل محاولات 2014، مؤكداً أن غياب الثقة بين الفرقاء السياسيين آنذاك كان السبب الرئيسي وراء فشل تأسيس المحكمة.

بين المحكمة الإدارية والدستورية

يُطرح في السياق سؤال مهم: هل المحكمة الإدارية قادرة حالياً على تعويض غياب المحكمة الدستورية؟ البعض يرى أنها تقوم بدور مقبول في الفصل في النزاعات الانتخابية، ما يجعل إرساء المحكمة الدستورية “غير ضروري حالياً” أو حتى “غير آمن سياسياً” في ظل التوترات المتزايدة.

لكن في النهاية، يبقى الرهان على أن تؤسس المحكمة الدستورية كهيئة مستقلة بالفعل، لا كديكور سياسي، وأن تكون في خدمة دولة القانون، لا أداة لتكريس حكم الفرد.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى