
في مشهد يجمع بين البعد الإنساني والوظيفة الإصلاحية للمؤسسات العقابية، شهدت مؤسسة إعادة التأهيل بن جراح بقالمة حدثًا مميزًا تمثل في تدشين مدرسة قرآنية لفائدة المحبوسين، تحت إشراف قاضي تطبيق العقوبات لدى مجلس قضاء قالمة، وبحضور رئيس المصلحة الخارجية لإدارة السجون المكلفة بإعادة الإدماج الاجتماعي للمحبوسين، إلى جانب مدير وإطارات المؤسسة وعدد من الأئمة وممثلي المجتمع المدني.
الحدث لم يكن مجرد نشاط رمزي، بل مبادرة نوعية تعكس التحول العميق في فلسفة إدارة السجون بالجزائر، من منطق العقوبة إلى منطق التأهيل وإعادة الإدماج، في إطار رؤية إصلاحية شاملة تشرف عليها المديرية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج.
هذه الرؤية تتأسس على مبدأ أن المؤسسة العقابية ليست فضاءً للعزل، بل حاضنة للتهذيب وإعادة البناء، وهو ما يُجسده هذا المشروع التربوي ذي الأبعاد الدينية والاجتماعية والإنسانية.
تكامل مؤسساتي وتجسيد فعلي للديمقراطية التشاركية
تندرج هذه المبادرة ضمن مقاربة حديثة قوامها التكامل بين مؤسسات الدولة والمجتمع المدني، بما يعكس ممارسة واقعية لـ الديمقراطية التشاركية التي أصبحت ركيزة أساسية في السياسات العمومية الجزائرية.
فإدارة السجون، باعتبارها جهازًا ذا طابع سيادي، تنفتح اليوم على شركاء اجتماعيين من جمعيات ومنظمات إنسانية لتفعيل برامج إعادة الإدماج، في انسجام تام مع مبادئ العدالة التصالحية وحق الإنسان في فرصة ثانية.
وقد تكفلت جمعية المسعفين المتطوعين في خدمة الإنسان والبيئة بتهيئة المدرسة القرآنية وتجهيزها تجهيزًا كاملاً، لتوفر فضاءً بيداغوجيًا تربويًا يتيح للنزلاء الانخراط في تعلم القرآن الكريم وتدبّره ضمن بيئة تعليمية مؤطرة ومحفّزة.
هذا التعاون يُبرز بوضوح التحول في فلسفة العمل الجمعوي، من الإغاثة الظرفية إلى الشراكة المؤسساتية المستدامة التي تسهم في دعم الاستراتيجيات العمومية ذات الطابع الاجتماعي والإصلاحي.
من العقوبة إلى التأهيل: إصلاح بمضامين تربوية وروحية
تسعى المديرية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج من خلال هذه البرامج إلى تجاوز المقاربة التقليدية التي كانت تُعرّف السجن كفضاء للعقاب، نحو منظور شمولي يضع الإنسان في قلب العملية الإصلاحية.
فالمدرسة القرآنية لا تُعد مجرد فضاء لتلقين النصوص، بل أداة لإعادة تشكيل الوعي وبناء منظومة قيمية جديدة تُساعد المحبوس على استعادة توازنه الداخلي، والاندماج لاحقًا في المجتمع بصفة مواطن مسؤول ومنتج.
تصريح رئيسة الجمعية: “التربية الروحية ركيزة للإصلاح وتقويم السلوك”
وفي تصريحها للجريدة، أكدت السيدة مسعودة شكروبة، رئيسة جمعية المسعفين المتطوعين في خدمة الإنسان والبيئة، قائلة:
> “نعتبر هذا المشروع السامي بقيمه الإنسانية ثمرة إصلاح حقيقي من أجل إعادة الإدماج، الذي يضع التربية الروحية والدينية للمحبوسين في خانة الركائز الأساسية لتقويم السلوكيات وتقليص أخطار الجنوح بعد الإفراج.
إنّ جهود مؤطري النشاط الديني داخل المؤسسات العقابية، من دروس إرشاد وتوجيه، تسهم في تعزيز قيم تعليم القرآن الكريم وجعلها عنصرًا فاعلًا في الوسط العقابي، بما يهيئ النزلاء للاندماج الإيجابي في المجتمع.
وتبقى الجمعية، تضيف شكروبة، ملتزمة بمواصلة دعمها للنزلاء والمفرج عنهم لتجسيد مخطط المديرية العامة لإدارة السجون باعتباره مشروعًا ممنهجًا لإعادة بناء الإنسان بعد انقضاء مدة العقوبة.”
التربية الدينية كمدخل لإعادة الإدماج الاجتماعي
تُعد المدرسة القرآنية إحدى أدوات التنشئة الأخلاقية والتربوية داخل الوسط العقابي، فهي تمنح النزيل فضاءً لتصحيح السلوك وتطهير الذات عبر منهج يقوم على القيم الإسلامية الوسطية.
هذا البعد الروحي لا ينفصل عن الأهداف الاجتماعية للمؤسسة العقابية، إذ يهدف إلى إعادة تشكيل الهوية السلوكية للمحبوسين، وتعزيز روح الانتماء والمسؤولية لديهم، بما يسهم في الحد من ظاهرة العود والانحراف بعد الإفراج.
إدارة السجون وجمعية المسعفين… نحو نموذج إصلاحي متكامل
التجربة التي احتضنتها مؤسسة إعادة التأهيل بن جراح تؤكد أن النجاح في سياسات الإدماج لا يتحقق بالجهود الأحادية، بل عبر مقاربة تشاركية تجمع بين مؤسسات الدولة والجمعيات النشطة والمجتمع المحلي.
إنّ الشراكة بين إدارة السجون وجمعية المسعفين المتطوعين تُعدّ نموذجًا في العمل الإصلاحي التكاملي، حيث تلتقي الخبرة المؤسساتية بالإرادة التطوعية لبناء مشروع إنساني يتجاوز الأسوار نحو فضاء الاندماج الاجتماعي
إنّ المبادرة التي احتضنتها مؤسسة بن جراح تُمثل تحولًا نوعيًا في مقاربة العدالة والإصلاح، فهي لا تكتفي بتطبيق القوانين بل تسعى إلى بناء الإنسان من الداخل عبر التربية والتأهيل.
Jour Guelma 2025, [22-10-2025 20:09]
كما تبرهن على أن الديمقراطية التشاركية ليست شعارًا مؤسساتيًا، بل ممارسة واقعية حين تتكامل فيها الإرادة الرسمية مع روح المبادرة المدنية من أجل إصلاح شامل يعيد الأمل والكرامة.
صمودي مهدي



